مثّل هبوط المركبة الفضائية الجوالة" كريوزيتي" على سطح المريخ إنجازاً تاريخياً مظفراً، بيد أن الحالة الحالية للأبحاث المدفوعة بالفضول العلمي، قد تعرض قدرة أميركا على الابتكار مستقبلاً للخطر. في الخامس من أغسطس 2012 كنت من ضمن مجموعة من الناس الذين شاهدوا هبوط المركبة الفضائية الجوالة على سطح المريخ في الوقت الحقيقي في مختبر الدفع النفاث في "باسادينا" التابع لوكالة "ناسا"، والذي تديره كلية "كالتك" التي أتشرف بالعمل بها. كانت نشوة اللحظة التاريخية جارفة، وخصوصاً عندما رأينا "مختبر المريخ العلمي"، الذي يبلغ وزنه طناً، ويشبه السيارة وهو يقتحم المجال الجوي للكوكب الأحمر، ثم يخفض سرعته من 13 ألف ميل في الساعة إلى صفر. إن نظرة واحدة على الصور الأولى التي بعثها المختبر من بعد يزيد على مليون ميل تظهر ريادة أميركا التي لا مثيل لها في مجال الابتكار. والمركبة الفضائية (كريوزيتي) التي يعني اسمها باللغة العربية "الفضول" وهو اسم مناسب تماماً سوف تقوم على مدى العامين القادمين بالتنقيب عن أسرار هذا الكوكب القريب للأرض، في ترجمة واقعية لما يعنيه العلم بالفعل وهو"الكشف عن المجهول". وفي الحقيقة أن استثمارات أميركا السابقة في العلوم والهندسة الأساسية، هي التي قادت إلى هذا الإنجاز الفريد، وأكدت ريادة أميركا في عالم الإنجازات العلمية الفذة. ولكن هذه الريادة مهددة الآن بسبب تقليص التمويل اللازم لمثل تلك الكشوفات العملية الفائقة، وبسبب تعقيد الإجراءات البيروقراطية اللازمة لذلك أيضاً، وهو تحول، يمكن أن يغير وضع أميركا في العالم سياسياً واقتصادياً في آن. بعد الحرب العالمية الثانية كان البحث العلمي في الولايات المتحدة مدعوماً بشكل جيد، وهو ما جعل الكثير من العلماء الوافدين على أميركا من شتى دول العالم، يتابعون أبحاثهم العلمية الفريدة التي أتاحت لهم فرصة الفوز بنصيب الأسد في جوائز نوبل. هذا الوضع تغير الآن: فالأبحاث المدفوعة بالفضول العلمي لم يعد يتم النظر إليها الآن في الكثير من الجامعات بشكل إيجابي كما كان الأمر في السابق حيث تشترط الجامعات أن تكون الأبحاث التي تجُرى ذات علاقة وثيقة، بالمجتمع، وأن يلتزم الذين يقومون بها بالتوصل لـ"حلول تحويلية" حتى قبل أن يشرعوا في إجراء تلك الأبحاث بالفعل. وهذه القيود والاشتراطات تستدعي السؤال: هل يمكن- افتراضاً- لإنينشتاين الشاب، أو "فينمان" أو"باولينج" أو غيرهم من عباقرة المخترعين أن ينجذبوا للعمل في مجال العلم والاختراعات لو أنهم كانوا يعيشون بيننا اليوم، ويواجهون ما يواجهه علماء اليوم من القيود والاشتراطات؟ وهل كانوا سيستمرون في أبحاثهم ومحاولتهم التوصل لإجابات علمية عن الأسئلة الجوهرية التي كانت تواجههم في بيئة علمية مثل البيئة السائدة حالياً. فيما سبق كانت الصناعة الأميركية تساهم بشكل فريد في الأبحاث والتطوير، ولكن الحال لم يعد كذلك الآن. ومن واقع خبرتي في التدريس الجامعي اكتشفت أن غالبية الشبان الذين يسعون للعمل في مهن موجهة للبحث العلمي كانوا مدفوعين بفضولهم المعرفي، وباحتمالات الحصول على وظيفة لائقة تتماشى مع ميولهم. ولكن في السوق الحالي نجد أنه حتى العلماء الحاصلين على درجة الدكتوراه في العلوم، إما أنهم يعملون في وظائف مؤقتة لم يجدوا غيرها، أو يعانون من البطالة. والشيء الذي اتضح لي بشكل جلي من واقع تلك الخبرة أن التقدم في مجال الأبحاث كان يتطلب رعاية العلماء الخلاقين في بيئة تشجع على التفاعل بين الباحثين من جهة، وعلى التعاون بين الحقول العلمية المختلفة من جهة ثانية، ولكن مثل هذه التفاعلات لا يمكن- ولا يجب في الأصل- أن تكون منسقة من قبل إدارة ضخمة الحجم، لأن العقول الخلاقة والبيروقراطية الجامدة البطيئة لا يتلاقيان ولا ينسجمان. ليس أمام المرء إذن سوى أن يتساءل: هل هناك معادلة "لتدبير عمل الاكتشافات العلمية؟". الإجابة من وجهة نظري تتمثل في الإدراك، والإيمان، بالتدرج الطبيعي للأبحاث والتطوير بدءاً من الأبحاث الأساسية إلى نقل التقنية، ومنها إلى المنافع المجتمعية. لكي يزدهر البحث العلمي الأساسي، يجب على الولايات المتحدة أن تزود الشباب بالتعليم المناسب في مجالات العلوم، والتقنية، والهندسة، والرياضيات، وأن تتبنى بالإضافة لذلك رؤية متجددة، ومتطورة للاستثمار في الأبحاث الجوهرية المدفوعة بالفضول العلمي، وهي رؤية تشتد الحاجة إليها في الظروف الراهنة. ليس من مصلحة الولايات المتحدة بأي شكل من الأشكال أن تخفض تمويل الأبحاث والتطوير ضمن إطار الاستقطاعات الشاملة التي تتم من دون تمييز لكافة بنود وأبواب الميزانية العامة. ويجب على المشرعين الأميركيين ألا يسعوا بأي شكل من الإشكال لعرقلة مجيء أفضل العقول من مختلف أنحاء العالم للولايات المتحدة، وإنما يجب عليهم- وهو ما لا يقل أهمية عما سبق- أن يدخلوا التغييرات الضرورية لتأجيج اهتمام الأميركيين مجدداً بالعلوم من خلال تعريضهم لها في السنوات المبكرة من دراستهم ، بواسطة وسائل الإعلام الحديثة، ومن خلال استغلال الثورة العالمية في مجال الاتصالات. لقد كانت أميركا دوماً، وما زالت حتى الآن، قادرة على إدخال التغييرات الضرورية للمحافظة على استمرار المؤسسات البحثية التي يحسدها عليها العالم. وفي جامعة "كلتك" التي أعمل بها أجد أنه لشيء يدعو للإعجاب حقاً أن يتمكن معهد علمي لا يزيد عدد أعضاء هيئة التدريس فيه عن 300 أستاذ جامعي من مختلف التخصصات العلمية من تقديم -سواء من هيئته التدريسية أو من طلابه- 35 من الحاصلين على جائزة نوبل. لقد كان المفتاح لتحقيق هذا الإنجاز هو البيئة الفريدة للأبحاث والتطوير التي أنشأها الآباء المؤسسون للجامعة منذ ما يقرب من 100 عام خلت، وهي بيئة تقوم على رؤية، تشتد الحاجة إلى إحيائها في الوقت الراهن. وإذا لم يتم ذلك فإن هناك انتقالا قد يكون في قيد التشكل الآن، ولكنه انتقال سوف يؤدي إلى بزوغ شمس الاختراع من سماء الشرق هذه المرة. د.أحمد زويل أستاذ الكيمياء والفيزياء في جامعة" كالتك" ،حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999. ينشر بترتيب خاص مع خدمة"تريبيون ميديا سيرفس"